نبذة عن حياة الكاتب
المعاملات والبينات والعقوبات

الصنـاعـة
هنالك ثلاثة ألفاظٍ لا بد من معرفة دلالة كل منها بالتحديد قبل البحث في موضوع الصناعة. وتلك الألفاظ هي: الفعل - العمل - الصنع.
فالفعلُ هو التأثير عن مؤثرٍ خارجيّ، يحصل - بشكلٍ عامٍّ - بإجادةٍ أو بغير إجادة، بعلمٍ أو بغير علم، بقصدٍ أو بغير قصد. ويطلق على ما كان من الإنسان، أو الحيوان، أو الجماد.
ويشتق من الفعل: الفاعل، والمفعول، والمنفعل. والفاعل هو الذي يأتي بالفعل، والمفعول هو ما يقع عليه فعلُ الفاعل، وهو أعمُّ من المنفعل، لأن المنفعل قد يُطلق على ما لا يقصد الفاعل إيجاده وإن كان قد تولَّد منه كحُمرة الوجه من خجلٍ يعتري الإنسان بسبب موقف يبعث على الحياء الشديد، أو كالابتهاج للمنظر الجميل الرائع، وغير ذلك.
أما العمل فهو كل فعلٍ يكون بقصدٍ، وهو أخصُّ من الفعل، لأن الفعل قد يُنسب إلى الجمادات، والعمل لا يمكن أن يقع منها أو يُنسب إليها.
وأما الصُّنع فهو إجادة الفعل، إذْ إنَّ كلَّ صُنعٍ فعلٌ، وليس كلُّ فعلٍ أو عملٍ صُنعاً. والصنعُ أيضاً لا ينسب إلى الحيوانات والجمادات كما تُنسب إليها الأفعال. ولذلك كان الصنعُ أخصَّ من العمل، وأخصَّ من الفعل.
وبعد هذه التعريفات الوجيزة ندخل في بحث الصناعة لنبيِّن مدى تأثيرها على الناس والمجتمعات.
فالصناعة تعتبر أساساً هامّاً من الأسس التي تقوم عليها الحياة الاقتصادية، ولذلك كانت ضروريَّةً وحيويَّةً لأيَّة أمةٍ، ولأي شعبٍ، ولأيِّ مجتمع بشريّ يرغب في مواكبة التطوُّر في العصر الحاضر.
وقد بيَّن الإسلام أحكامَ المصانع بأن جعل الأصل فيها قيامها على الملكية الفردية، وذلك بأن يكون لكل فرد من أفراد الرعية الحق في تملك مصنع، لأن المصنع لا يدخل في الملكية العامة، ولا في ملكية الدولة. والدليل على ذلك أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) اصطنع منبراً عند من يملك المصنع الخاص، أي عند من يملك مصنعاً ملكية خاصة.
والصناعة يجب أن تقوم على القاعدة الشرعية التي تقول: «الصناعة تأخذ حكم ما تنتجه». وهي في الأصل مباحة. سواء أكانت صناعة عصير عنب، أو تفاح، أو خضارٍ، أو غيرها... ثم جاء الإسلام وحرَّم الخمر، فحرَّم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) صناعة الخمر. فعن أنسٍ قال: لعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في الخمرة عشرة: شاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وعاصرها ومعتصرها..[*].
وعلى الرغم من إباحة الصناعات، إلاَّ أن هناك حالات يحرّمُ فيها الشرعُ إنشاء المصانع أو المعامل أو تملكها، فمثلاً لا يجوز للمسلم إقامة مصنع للخمر، أو إنشاء معمل لصنع المخدرات أو إقامة مسلخ لذبح الخنزير الخ... لأن هذه الأشياء تدخل في المحرمات، فامتنع بالتالي تصنيعها أو امتلاكها بالشراء وغيره...
ولما كانت المصانع تقوم على المواد الأولية، وعلى الأشياء التي تعود بطبيعة تكوينها للجماعة أو للمرافق العامة، فالبحث، إذاً، يمكن أن يكون حول هذه الحالات الثلاث:
الحالة الأولى: التي تتعلق باقتطاع الأرض، فالمعادن الصلبة كالفضة، والحديد والنحاس، والرصاص، أو السوائل كالنفط والزئبق، وما شاكلها، جميع هذه المعادن وأمثالها لا يمكن اقتطاع الأرض التي توجد فيها وإعطاؤها للأفراد. بمعنى أنه لا يجوز أن تعطى لهم من قبل الدولة، وإن أعطيت خطأ، استعيدت من قبل الخليفة. والدليل إرجاع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) ما أقطعه من أرض إلى عمر بن قيس المأربي وغيره[*].
الحالة الثانية: التي تتعلق بالأشياء التي تمنع طبيعةُ تكوينها اختصاصَ الفرد بحيازتها، وبالتالي عدم استثمارها سواء بالصناعة أو بغيرها، كملكية الطرق والساحات والمنتزهات العامة، والبحار وشواطئها، والخلجان، والمضائق والمساجد، وما شاكلها، وذلك لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «مِنى مناخُ مَنْ سبق»[*].
الحالة الثالثة: التي تتعلق بمرافق الجماعة الحيوية، بحيث لو لم تتوفر لها بوصفها جماعة، لسعت في طلبها والحصول عليها. وقد أعطى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) مثالاً عليها الماء والكلأ والنار لقوله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار»[*].
من هذه الخطوط العريضة يتبيَّن أن الشرع قد عالج الملكية الصناعية في الأساس، عندما أوضح متى يجوز أَنْ تُملك المنشآت الصناعية ملكيةً فرديةً، ومتى تكون ملكيةً عامة.
والحكم في المصانع هو أن الفرع يتبع الأصل. فالكهرباء مثلاً، إذا كان توليدها من مولد خاصٍّ من مصنع خاص، أي من ملك فردي، فالحكم الشرعي فيها، أنها ملكية فردية، وكذلك ما يتبعها من طاقة منتجة للحرارة أو للإنارة فإنها ملكية فردية لأن حكم التابع هو كحكم الأصل. أما إذا كان توليد الكهرباء من مساقط المياه العامة، أو من النفط (الذي يدخل في ملكية الجماعة) فإنها، ولا شك، تكون من الملكية العامة، سواء أكانت الغاية من توليد الطاقة الكهربائية لأجل الإنارة، أم لأجل استعمالها في توليد الطاقة الحرارية (التي تستعمل مقام النار).
ومما ينطبق عليه حكم مرافق الجماعة أيضاً مصانع الكبريت والفحم الحجري، والصناعات المتولدة عن النفط كافة. فإنها جميعها تدخل في الملكية العامة، لأنها هي المعنية بنص الحديث: «الماء والكلأ والنار»، لأن المقصود بالنار: الوقود وما يتعلق به.
وأما المصانع الأخرى كتلك التي تنتج الحلويات، والسكر، والنسيج، والزجاج، ومحالج القطن، والمطاحن، ومعامل السماد والترابة وما إلى ذلك... فإنها تدخل في الملكية الفردية، لأن ما تنتجه لا يعتبر من مرافق الجماعة. إلا أنها على الرغم من كونها ملكية خاصة وفردية فإنه يجوز للدولة أن تشتريها وتمتلكها، ويجوز لها أيضاً أن تشتري مصانع أخرى من نوع الملك الخاص كمصانع السيارات، أو البرادات أو الآلات الكهربائية أو الكومبيوتر؛ كما أنه يجوز لها أن تنشئ هي مثل تلك المصانع والمعامل، أي أنَّ كل ما هو داخل في الملكية الفردية يجوز للدولة أن تمتلك مثله، وخاصة إذا كان الأفراد عاجزين عن امتلاكها، والجماعة بحاجة إلى مثلها.
وهذا ما هو معمول به في العصر الحديث، إذ نجد كثيراً من الصناعات التي كانت مملوكة ملكية فردية، قد أقدمت الدولة على امتلاكها بصورة واقعية وفعلية، كما هو الحال في مصانع الطائرات، وقطع الغيار اللازمة لها، أو السيارات أو البواخر وغيرها من الجواري المنشآت في البحر والبر والجو التي تحتاج صناعتها وإنتاجها إلى أموال ضخمة، قد لا يتأتّى للأفراد، أو حتى الشركات، القيام بها لولا تدخل الدولة وتقديمها المساعدات اللازمة لذلك، باعتبار أن الدولة وحدها تملك الإمكانات، ورؤوس الأموال الكبيرة التي تحتاجها المنشآت الصناعية الضخمة، والتي لا يقوى عليها الأفراد، إلاَّ بالقليل النادر..
ولقد أدرك الغرب ما للصناعات من أهمية فاعتمد خطةً تمكّنه من توفير الأموال الضخمة واستثمارها في المشاريع الصناعية، وذلك عندما درج على إنشاء الشركات المساهمة، التي يتيح نظام تكوينها أن تجمع أموالاً ضخمة، لتستطيع بها أن تؤسس، وتملك مثل تلك الصناعات.
ومن الطبيعي أن هذا الأمر قد لا يقره الإسلام على الشكل الذي يجري في الغرب، لأنه يحرِّم شركات المساهمة، إلا إذا شارك المساهمون في إدارتها ومعرفة ما هي عليه، كما أنه يحرِّم جمع عدة شركات في شركة واحدة كما يحصل في التراست، والكارتل، وما شابه من احتكارات الغرب..
وأما تحريم الإسلام للشركات المساهمة، فلأن الشركة في الإسلام هي من باب العقود كالبيع والإجارة. ولهذا لا تكون الشركة إلاَّ بوجود شركاء يباشرون بأنفسهم التصرف في الشركة، أو بأموالهم شريك يتصرف هو مباشرة بنفسه. ومثل هذه الشركات، لا يحصل فيها، بسبب طبيعتها، تجمع المال.. مما يعني أنه يمكن، بحسب أحكام الشركة في الإسلام، أن تنشأ شركات ذات رؤوس أموال ضخمة، تقدر بواسطتها على إنشاء الصناعات الكبرى، نظراً لعدم إمكانية تجمع المال ما لم يتحقق العنصر الإنساني والجهد المباشر للشركاء في الشركة، وهذا قد لا يتحقق في شركات كبيرة وذات رؤوس أموال طائلة، فلا يبقى بالتالي قادراً على ذلك إلا الدولة... فكان من الطبيعي ألاَّ توجد من جراء ذلك الاحتكارات الكبرى للمصانع ولغيرها من مشاريع الإنتاج الحيوية - بل والاستراتيجية - كما هي الحال في النظام الرأسمالي..
فطبيعةُ تطبيق أحكام المنهاج الإسلامي تجعل مثل تلك الصناعات ملكاً للدولة، ولوكان قد باشر فيها الأفراد، وامتلكوها ملكية فردية خاصة. إلاَّ أن ذلك لا يحلّ إلا برضا أصحابها، لأنه لا يحِلُّ للدولة أن تستولي عُنوةً على المصانع ذات الملكية الفردية، وذلك لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم): «لا يحل مال امرئ مسلم إلاَّ بطيب نفسه».
وعندما تقوم الدولة بإنشاء المصانع الكبيرة، وإنتاج الآلات الثقيلة، فإن أرباحها تعود إلى بيت المال، مع الخراج والضرائب وكافة الموارد المالية التي أجاز الشرع إيجادها، أو تحصيلها. وتصرف تلك الأموال برأي الخليفة واجتهاده كسائر أموال الدولة.
ويكون للخليفة السلطة في بيع المصانع أو إعطاء امتيازها للأفراد إذا كانت بالأصل ملكية خاصة للدولة، وكان الفرد يستطيع أن يموِّلها ويديرها، وذلك بخلاف أملاك الدولة العمومية، سواء أكانت من الأعيان أو العقارات، فإنها تبقى ملكاً لعامة المواطنين، ولا يحل للدولة أن تبيعها، أو تهبها، أو أن تعطي امتيازها لأحد، وأرباحُها تعود دائماً لعامة المواطنين، وليست لبيت المال. إنما يكون بيت المال حرزاً لها ليس غير، وتوزَّع على جميع المواطنين بدون تمييز، ولا تفريق. أما الإيرادات أو الأرباح التي تحققها المشاريع ذات الصفة العمومية فيجري توزيعها على الرعية إما عيناً، وإما ثمناً، وذلك راجع إلى رأي الإمام واجتهاده.
وقد تعطي الدولة للرعية، مجاناً، كما أن للدولة أن تعطيَ الرعية ما هو داخل في الملكية العامة. كالماء والكهرباء، وعلى قدر حاجاتهم، كما أنّ لها أن تبيعهم إياه بسعر السوق كالنفط والحديد والترابة وما إلى ذلك، أو أن توزع أرباحه عليهم، كما قلنا، على قدر المساواة، فهي تفعل في ذلك ما تراه مصلحةً للناس، لأن ما يدخل في الملكية العامة لا يصحّ أن يصرف في شؤون الدولة. ولذلك كانت كيفية رعاية شؤون الملكية العامة موكولةً للإمام حسب نصّ الشرع.
تلك هي أحكامُ الصناعة وكيفية معالجتها من حيث إنشاءُ المصانع وامتلاكُها، وخصوصاً المشاريع الصناعية الكبرى، نظراً لتأثيرها على حياة الناس. ولا يدخل في ذلك الأحكامُ التي تتعلق بالعمال. أو بتصريف الإنتاج.. فالمصنع هو وحده الأصلُ في الصناعة، وبيانُ أحكامه، بيانُ أحكامها، باعتبارها مصدراً هامّاً من مصادر الثروة، مما نخلص معه إلى القول بأنه ليس في الصناعة أحكامٌ شرعيةٌ سوى أحكام المصانع.
أما موضوعُ العمال فجهد الإنسان هو المصدر الاقتصاديّ فيه، كما أن تصريفَ الإنتاج هو مصدرٌ اقتصاديّ آخرُ ولكنه يدخل في التجارة، ولذا لم يجرِ البحث في العمال وفي تصريف الإنتاج هنا..
ويبقى أن نشير إلى أن عقد الاستصناع هو من الأمور التي تدخل في الصناعة فما هي أحكامُ هذا العقد وشروطُه؟
عقد الاستصناع:
تعـريفـه:
هو عقد يقوم الإيجاب والقبول فيه بين المستصنع والصانع على صنع شيء في الذمة، على أن تكونَ الموادُّ والعملُ من الصانع. فإذا كانت المواد من المستصنع والعمل من الصانع كان العقدُ إجارةً لا استصناعاً. ومن الأمثلة على الاستصناع العقود الجارية على صناعة الأحذية، أو الأواني أو المفروشات وما إلى ذلك، أي كلّ ما يجري فيه التعامل بين الناس. كما لو طلب إبراهيم من إسماعيل أن يصنّع له ثلاثة آلاف زوج أحذية، أو مائة ألف قميص بمواصفات فنية معينة، أو عشر طاولات طعام وما إلى ذلك من العقود الأخرى وبالشروط التي سوف نراها..
وعقد الاستصناع يشبه بيع السَّلَم من حيث إنَّ الشيءَ المصنوعَ يكون في ذمة الصانع، إلاَّ أنه لا يجب فيه تعجيلُ الثمن، ولا بيانُ مدة الصنع والتسليم. كما أنه يفترق عن الإجارة من حيث إن الصانع هو الذي يؤمن مادة الشيء المصنوع من ماله.
شروط عقد الاستصناع:
يجب أن تتوفر في عقد الاستصناع شروطٌ عديدة، ومنها:
1 - بيان جنس المصنوع ونوعه، وكميته، وصفته، وذلك لكي يكون معلوماً من الفريقين.
2 - كونه مما يجري فيه التعامل بين الناس كالأحذية والأواني والمفروشات ونحوها.
3 - كونه عقداً سواء حُدِّد فيه أجلٌ أو لم يحدد، وإن كانت العادة بين الناس أن يجريَ تحديدُ الأجل في الاستصناع.
4 - كونه عقداً غير لازم، بحيث يكون لكلٍّ من العاقدين الخيارُ في إمضاء العقد أو فسخه، سواء قبل الصنع، أو بعد الانتهاء منه. إلاَّ أنه إذا حمل الصانع الشيء المصنوع إلى المشتري (المستصنع) فإن خياره يسقط، لأنه يكون قد رضي بأن يكون المصنوع للمستصنع.
صفة عقد الاستصناع:
قلنا إن عقد الاستصناع غيرُ ملزم، ولكنه يصبح لازماً إذا رأى المستصنع الشيء المصنوع، وقَبِلَهُ، طالما أنه جاء موافقاً لطلبه وشروطه، فلا يعود له بعد ذلك الخيارُ في الرجوع عنه. أما السبب في ذلك فهو دفع الضرر عن الصانع، لاستعمال الموادّ المصنَّعة بحسب طلب المستصنع، وربما لا يرغب غيره في المصنوع على تلك الصفة، خاصة وأن حاجات الناس ورغباتهم تختلف باختلاف الأشياء المصنوعة من ناحية الشكل والنوعية والجودة والثمن وغيره.
ثم إن عقد الاستصناع يتفق مع مفهوم القوة الملزمة للعقود بصفةٍ عامّة في الشريعة، لا سيما إذا كان يتناول صناعةَ أشياءَ ثقيلة، أو ذاتِ تكاليفَ باهظة، كما هو الحال في الاتفاق على تصنيع آلات أو أشياءَ ضخمةٍ كالسيارات والسفن وغيرها.. فلا يعقل أن يكون عقدُ الاستصناع فيها غيرَ ملزم، نظراً لخطورتها على الحياة الاقتصادية بوجه عام، وعلى الصانع بوجه خاص.
السياسة الصناعية
تقوم السياسة الصناعية على تصنيع البلاد، تصنيعاً قوامه الرئيسيّ صناعةُ الآلات والمعدات، التي يحتاجها الإنماء الصناعي وتطوره، ومنها تتفرع باقي الصناعات الأخرى.. ذلك أنه لا يمكن جعلُ البلاد صناعيةً إلا بالتصنيع الثقيل أولاً وقبل كل شيء، وعدمِ القيام بإنشاء أيّ مصنعٍ إلاَّ بتوفير الآلات اللازمة المصنوعة له في البلاد..
أما القول بأن إيجاد صناعة الآلات والمعدات يحتاج إلى وقت طويل، وأنه لا بد قبل ذلك، أن نبدأ بصناعة الحاجات الأساسية، فكل ذلك مغالطات، وتعجيزات يُراد بها تعويقُ الصناعات الثقيلة، وصرفُ البلاد الإسلامية إلى الصناعات الاستهلاكية، حتى تظلَّ سوقاً لمصانع أوربا وأميركا وروسيا، وغيرها من البلاد المتقدمة صناعياً.
ثُمَ إنَّ الواقع يكذّب تلك الأقاويل.. فإن روسيا القيصرية، حين خرجت من الحرب العالمية الأولى، كانت عالة على أوروبا، ولم تنشأ لديها صناعةُ الآلات إلاَّ فيما بعد. وقد نُقل عن لينين بأنه قد طُلب منه تحسين الإنتاج الزراعيّ بإحضار آلات الحراثة (التراكتورات) من الخارج، كي يمكنَ السير في الزراعة بالآلات الحديثة، فأجاب: «لن نستعمل التراكتورات حتى ننتجها نحن، وحينئذٍ نستعملها»... وفي مدة ليست بطويلةٍ تمَّت في روسيا ليس صناعة التراكتورات وحسب، بل وصناعة أنواع عديدة من الآلات الصناعية، بل وأثقل الصناعات وأخطرها، ولا سيما صناعية الأسلحة الخفيفة والثقيلة، والاستراتيجية منها خاصة.
وأما القول أيضاً بأن صناعة الآلات تحتاج إلى إيجاد وسطٍ صناعيّ من مهندسين وعمال فنيين، وما شاكل ذلك... فإن ذلك لا يمنع من الإقدام على توفير الطاقات التي يحتاجها التصنيع الثقيل سواء الطاقات البشرية أم الطاقات المادية.. أما الطاقات البشرية فقد صار في البلاد الإسلامية - والحمد لله - مجموعاتٌ كثيرة من المهندسين والفنيين، كما أنه يمكن إيفاد المئات بل الآلاف من شبابنا إلى البلدان الأخرى للتخصص في مختلف فروع الصناعات ولا سيما صناعة الآلات والمعدات، وهذا سهل وميسور.. ثم إن هناك دولاً كثيرة لديها الكفاءات الفنية، ويمكن الاستعانة بها خلال فترة من الزمن، بما تحتاجه بلادنا من تلك الكفاءات..
وأما بالنسبة إلى الطاقات المادية فإن البلاد الإسلامية تشكل سوقاً متكاملاً للإنتاج، ولديها خيرات وثروات تفوق فيها معظم بلدان العالم، فهي لا تحتاج إذاً إلى رؤوس الأموال، إذا ما عرفت كيف تستغل مواردها وتحقق منها الأموال الطائلة..
من أجل ذلك، وبسبب ما أودعَ الخالقُ العظيم البلادَ الإسلامية من خيراتٍ وثروات، فإننا نرى الدول الأجنبية تقوم بأنواعٍ من الخداع والتضليل لصرف هذه البلاد عن صناعة الآلات والمعدات، والحيلولة بينها وبين تكوينها تكويناً صناعياً... والدليل على ذلك أنه قد صدرت كتب عديدة في الاقتصاد، وهي خاصة بالشرق الأوسط، حول التنمية الاقتصادية.. وقد صيغت تلك الكتب صياغةً تجعل الناس في هذه المنطقة - بل وفي سائر البلاد المتخلفة والنامية - يعتقدون أن عليهم أن يمروا بمراحلَ عدةٍ حتى يصلوا إلى مرحلة التقدم الصناعيّ.
وقد قسَّمت الدراسات الصادرة بهذا الخصوص دولَ العالم إلى ثلاث فئات:
الأولى: الدول التي تنتج المواد الخام ولا تصنّعها، واعتبروها دولاً متخلفة.
والثانية: الدول التي تسير في طريق التصنيع، واعتبروها دولاً نامية.
والثالثة: الدول التي تصنّع المواد الخام، سواء كانت هذه المواد من إنتاجها المحليّ، أم من غير إنتاجها، وعدّوها دولاً متقدمة.
وقد أكدت تلك الدراسات الهادفة - بخبثها ودهائها - أن على الدول أن تمر بتلك المراحل الثلاث، حتى يمكنها الانتقالُ من التخلفِ إلى التقدم.. وقد فسَّرت ذلك بنظريات تتوافق مع مراميها عندما اعتبرت أنه لا بد أن يمرَّ المجتمع بمرحلة تقليدية، ثم ينتقل إلى مرحلة الانطلاق، تليها مرحلة النضوج، فمرحلة الاستهلاك الشعبيّ العالي.. وكلّ مرحلة من تلك المراحل لها شروطٌ تؤهِّل لها. كما أنه يقتضي لكل مرحلة زمنٌ حتى تستوفيَ شروطها. والغرض من ذلك كله هو صرف الناس عن الثورة الصناعية.
والحقيقة أن الثورة الصناعية هي العلاج الوحيد لمشاكل التخلف، وعليها يتوقف الإمساك بزمام الاقتصاد وتطوره، لأنها تؤدي إلى القيام بعملية انقلابية في الصناعة وفي مختلف مرافق الإنتاج. ولا يمكن أن تكون لنا ثورةٌ صناعيةٌ ما لم تنطلق بلادنا بتصنيع الآلات والمعدات..
أما ما يدعو إلى التركيز على الثورة الصناعية، والمبادرة إليها قبل غيرها، فأسباب عديدة وكثيرة، ولن ندخل في تفاصيلها هنا، بل نعطي بعض الأمثلة التي تتعلق بالاقتصاد فقط... ومن قبيل ذلك إن المصانع القائمة حالياً في بلادنا يبقى تشغيلها مرهوناً بسياسة الدول التي قدَّمت لنا الآلات. فكثيراً ما تصيب هذه المصانعَ الأعطالُ، وتحتاج إلى قطع الغيار اللازمة، أو قد تتعطل بعض الآلات كلياً، ويقتضي استبدالها بغيرها.. وهذا ما توفره لنا الدولُ المنتجةُ للآلات عند الطلب، أو قد تؤخر توفيره إلى ما تشاء وفقاً للسياسة التي تنتهجها حيالنا... فضلاً عما يكلفنا ذلك من المبالغ الطائلة التي نضطر إلى دفعها بالعملات الأجنبية، لأن شراء قطع الغيار، كما هو الحال في شراء المصانع والآلات الجديدة من الخارج، من شأنه أن يزيد أكلافها بصورة مطَّردة ومستمرة بحجة أن أسعارها ترتفع عاماً بعد عام، وفقاً للأسعار الدولية.. مما يعني بالنتيجة أن اقتصادياتنا سوف تبقى رهناً للدول الأخرى.. فإذا أوجدنا نحن مصانع الآلات والمعدات، ومصانع خاصة لقطع الغيار اللازمة لمختلف استخداماتنا - لا سيما وأن النفط والمواد الخام متوفرةٌ في بلادنا - فإن الأكلاف لإنشاء الصناعات التي نحتاج أو نريد سوف تكون أقلَّ بكثير. وهذا من شأنه أن يوفِّر علينا الأموالَ الطائلةَ التي يمكن استخدامها لمستلزمات الإنماء الاقتصادي الشامل.
من هنا كانت ضرورةُ الثورة الصناعية بمفهومها الحديث، وعدمُ التلهي بالمشروعات الاقتصادية الأخرى، سوى تلك التي توفر الضروريات لحياتنا.
وإن صناعة الآلات والمعدات وإن كانت تشكل حاجةً أساسيةً، ولا غنى عنها للبلاد الإسلامية عامة، إلاَّ أن الحاجةَ إليها أكثرُ إلحاحاً لمنطقة الشرق الأوسط، بسبب ما تفتقر إليه هذه المنطقة من صناعات حيوية - إلا ما تنتجه عدوتنا اللدود إسرائيل لمصلحتها - مما يضطر بلادنا الشرق أوسطية إلى استيراد ما تحتاجه من الآلات وغيرها من الخارج. لا سيما وأنَّ اهتمام هذه المنطقة ما يزال منصبّاً على إنشاء المصانع المنتجة للمواد الاستهلاكية، أو ما تزال غالبيتها تكتفي باستيراد المواد الاستهلاكية من الخارج، الأمر الذي جعل من بلاد هذه المنطقة سوقاً استهلاكية رابحة.. ولهذا فإنه من الناحية التجارية يكون التعجيلُ بإيجادِ مصانعَ للآلات والمعدات أمراً ضرورياً لكسب هذه السوق المفتوحة.. وهذا ما يفرض على بلدان منطقة الشرق الأوسط أن تجعل في أولويات اعتباراتها العملَ الدائبَ على القيام بالثورة الصناعية.
ويجب أن يكون واضحاً أننا ننادي بضرورة صناعة الآلات والمعدات من أجل تحقيق أهدافنا الاقتصادية، أي لتحقيق السياسة الاقتصادية التي تجعل من بلادنا بلاداً صناعية. ولا هَمَّ بعد ذلك إن جنينا من جراء ذلك الأرباح المادية، أم أوجدنا لصناعاتنا الأسواق الخارجية، ما دام ذلك يؤدي إلى القضاء على التخلف الذي نعاني منه.. وهذا مع لفت الأنظار إلى أن الوضع الدولي الجديد، أو النظام الدولي الموعود من الولايات المتحدة الأميركية، قد يدفعنا رغماً عن إرادتنا إلى الصلح مع إسرائيل، فتكون حاجتنا عند تحقيق هذا الصلح - أو ما يسمى بالسلم في الشرق الأوسط - أكثر إلى الإنماء الصناعيّ المتكامل فيما بين بلادنا، وإلاَّ كنا السوق الاستهلاكية لإسرائيل، وكفى بذلك شرّاً، ندعو الله عزَّ وجلَّ، ألاَّ نقع في محظوراته.
نعم إن الدافع لإيجاد صناعة الآلات والمعدات هو تحقيقُ هذه السياسة الهادفة، التي يجب أن تكون مدار اهتمام البلاد الإسلامية، كي تتخلّص من المشاكل التي تعاني منها، وفي طليعتها طريقة العيش الرأسمالية التي بلغ التذمّر منها حداً قد يقرب من الانفجار. فالمسلمون اليوم ازداد شعورهم بضرورة تحقيق استقلالهم السياسيّ والاقتصاديّ، وفك الارتباط بينهم وبين الاستعمار الذي يستغلّهم بأبشع الطرق الظاهرة والخفية، فضلاً عن شعورهم بضرورة التغيير بطريقة عيشهم.
ولهذا فإن هدف السياسة الصناعية هو جعل بلادنا بلداً صناعيةً للاستغناء عن كل ما يربطنا بالتبعية إلى أية جهة كانت.. وإن أوروبا لم تحصل فيها الثورة الصناعية إلا عندما وُجدت فيها صناعة الآلات والمعدات، وأميركا كانت مستعمرةً لعدة دول ولم تتقدم اقتصادياً وسياسياً إلا عندما حصلت فيها الثورة الصناعية، وروسيا كذلك لم يحسب لها حساب إلا بعد أن حصلت فيها الثورة الصناعية.
لذلك يجبُ أنْ تكون السياسةُ الصناعيّةُ قائمةً على أساس الاستغناء عن الغرب والشرق معاً. ومن أجل هذا لا بدّ مِنَ البَدْء بإيجاد صناعة الآلات والمعدات، وأنْ يكون هذا البدْء ثورةً صناعيةً وبشكلٍ انقلابيٍّ، لا عن طريقِ التدرّجِ ولا عن طريقِ السيرِ في مراحل حتى نقطع مسافات في الصناعة، أو حتى نقْطَعَ مراحلَ وهميّةً تُرْسَمُ لإِعاقتنا عن السير وللحيلوية بينَنا وبينَ الثورة الصناعيّةِ.
وذلك لا يعني أنّ ما عندنا من مصانعِ استخراجِ النفطِ وتصفيَته واستخراج غيره من المعادن يجبُ أن يقفَ عن العمل حتى ننهيَ ما نكون قد بدأنا فيه من ثورة صناعية. كما أننا لا نستطيعُ أن نُنِكرَ أنَّ لدينا صناعاتٍ استهلاكيةً كصناعة الغزل والنسيج والسكر والمحفوظات والخشبِ وغير ذلك، وهي صناعات لا تزالُ في بداية النشوء... ولذلك لا يرد سؤال: ماذا نفعلُ بها؟ فإنها ستظلّ كما هي، لا نسيرُ فيها شوطاً أكبر، ولا نُنْشئ غيرها، بل يجبُ التوقّف عندَ ما هو موجودٌ منها وتغييرُ الطريق تغييراً فجائياً ومدركاً، وحصرُهُ بالاتجاهِ الهادفِ لإِنشاء صناعة الآلات والمعدات.
وذلك لا يعني أيضاً قفْلَ باب الاستيراد، لأنّ رعايا الدولة لهم أن يشتروا ما يُريدونَ من داخل البلاد وخارجها حسب سياسة الاقتصاد في الإِسلام، بل كلُّ ما نقصده هو تغيير الطريق بإيجاد مصانع للآلات والمعدات وجعْلها كأرقى المصانع الآلية، وحينئذٍ قد يحصلُ الانقلاب غير المتوقع وهو الشراء من إنتاجها، فلا نظلُّ تحت وطأة الاستيراد من الخارج وبالشكل التجاري المعروف، أو قد تصبح لدينا، على الأقل، سياسة اقتصادية قائمة على التكافؤ بين منتوجاتنا ومنتوجات الدول الأخرى.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢