نبذة عن حياة الكاتب
المعاملات والبينات والعقوبات

رأي ونـداء ودعـاء
الـرأي:
من البديهي القول إن الفوارق قد وجدت بين المجتمعات البشرية، وذلك على مدار الوجود البشري، سواء في الأعراف، أو العادات، أو التقاليد، أو في أنماط العيش، وما استتبع ذلك من اختلافٍ في أنظمة السياسة والاجتماع والاقتصاد وغيرها.. بحيث جعل كل ذلك للمجتمع الواحد نوعاً من الشخصية التي تميّزه عن غيره من المجتمعات الأخرى، وجعل هذا المجتمع متفوقاً ومتقدماً، وجعل غيره متأخراً ومتخلفاً، وفقاً للمفاهيم السائدة للتقدم والتخلف.
ولئن كان إجماع العلماء في القانون والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتاريخ والجغرافيا وشتى أنواع العلوم الأخرى على أن وراء تلك الفوارق بين المجتمعات عواملَ عديدة ومتنوعة، فإن هنالك إجماعاً أيضاً بينهم على أن بناء المجتمع وتقدمه لا يكون إلاَّ بتضافر جهود جميع أبنائه، وتضامنهم لأجل تحقيق الأهداف والغايات التي يرمون إليها في حياتهم. وذلك كلّه يفترض دائماً وحدة وتجانساً في الأفكار والمشاعر، وفي الرؤى والتطلعات، وفي الخطط والبرامج، وفي شتى الأمور والنواحي المعنوية والمادية التي تنصهر مع بعضها البعض لإيجاد البناء المجتمعي المتين.
وهذا يعني أن لا شيء في الوجود البشري يقوم بدون جهد الإنسان، بل إنّ هذا الجهد نفسه هو الأصل في استخلاف الإنسان من خالقه تبارك وتعالى لإعمار هذه الأرض، وفي تسخير كل ما فيها لصالحه. وعلى أساسه توزَّع الناسُ إلى شعوب وأمم متعددة كما يؤكد ذلك الإسلام في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحُجرَات: 13]. وعلى أساسه كذلك كان وجود هذه المجتمعات الإنسانية القائمة على مختلف بقاع الأرض، وفيما هي عليه من تنوع في الأجناس والألوان والأعراف واللغات والأديان...
من هنا كان حريّاً بالناس، أفراداً وجماعات، أن يعوا تلك الحقائق التي يقوم عليها وجود المجتمعات المتعددة، وأن يدركوا أنَّ المسؤولية في بنائها إنما تقع على عاتق الحاكم كما تقع على عاتق المحكوم، وعلى عاتق الأفراد كما على عاتق الجماعات. فإذا تمَّت هذه المعرفة، تتلاقى جميع القوى في الوحدة الناظمة لكل الجهود العائدة لأي جماعة إنسانية.
وهذا ما يجعل دور الفرد الواحد في البناء والنهوض حيوياً وفعالاً، ويفرض على الفرد الذي يريد فعلاً أن ينهض ويحمل أعباء مسؤوليته ألاَّ يهتم عادة بالجزئيات بل يصرف اهتمامه إلى الكليّات، وألاَّ يهتم بالفروع بل بالأصول، وأن يُعنى العناية الزائدة بالأساس الذي يقوم عليه الإنشاء والارتقاء، بعد أن يكون قد أدرك ما يجب عليه أن يضعَ ويَصنعَ، ويشيد ويرفع فوق الأساس من المعاني والقيم والمثل، حتى يأتي بنيانه سليماً، متيناً، متكاملاً مع بنيان الآخرين الذين يسيرون معه على نفس المنهج الذي يرضي الله سبحانه وتعالى ويحقق الغاية من الوجود البشري..
وذلك، طبعاً، بخلاف الفرد الآخر الذي تكون لديه أفكارٌ سطحية فيجعل اهتمامه منصباً على الجزئيات بعد أن أهمل الكليات، وعلى الفروع بعد أن أهمل الأصول، ثم هو لا يعير التفاتاً للأساس الذي يرغب في البناء عليه إلاَّ قليلاً. وهذا أمر حتمي لأنه يكون من عداد الأفراد الذين لا يفكرون عادةً بإنشاء ورقي مجتمعهم ولا بنهضة وتقدم أمتهم.. ومثل هذا النموذج الذي يوجد في مختلف فئات المجتمع يظل على سطحيته، في أي عمل يقوم به، وفي أي مجالٍ يطرقه..
ولذلك كان في مصلحة المجتمع، وفي مصلحة الأمة أن يكثر في أبنائها الصنف الأول، أي أفراد النخبة الواعية، المدركة لمعاني وأبعاد الإنشاء والارتقاء. بل وكان في مصلحة الإنسانية بأسرها أن يتاح المجال دائماً للنخبة كي تتمكن من تجسيد أفكارها واهتماماتها، بأفعال وأحداث واقعية تعود بالنفع على مجتمعها، وتؤمن الروابط المتينة والعلاقات الحميدة بين مختلف أبناء أمتها.
ولقد حفل التاريخ الإسلامي بوجود نخبة من أبناء الإسلام، سواء من الأولين أو من التابعين والمتأخرين، تحملوا أعباء المسؤوليات - بإيمان صادق وهمة عالية وعزم ثابت - لينشروا دينهم، ويوحدوا أمتهم حتى تكون قادرة على القيام بدورها بين سائر الأمم الأخرى. فكانوا من المرضيين عند الله عزّ وجلَّ جزاءَ ما تحلَّوا به من فضائل حميدة، وما قاموا به من أعمالٍ مجيدة.. ومن بين تلك الثلة المباركة أولئك الأعلام في الفقه والاجتهاد الذين وضعوا مفاهيم الشريعة الإسلامية الغراء بين أيدي المسلمين، مفسرين، ومستنبطين الأحكام الشرعية بما يتوافق مع الكتاب والسنة. وهي الأحكام التي تجعل المسلمين يعرفون كيف يعالجون مشاكلهم وشؤون حياتهم بما يتفق ودينهم الحنيف في هذه الحياة.
ولا نغالي إن قلنا بأن أهل البيت (عليهم السلام) من الإمام علي إلى ولديه الحسن والحسين والأئمة الآخرين من سلالته كانوا هم العترة النبوية الطاهرة الذين حفظوا الدين الحنيف، وفي الأصول والفروع، وأقاموا الموازين الحق في تفسيرهم للأحكام الشرعية، كما يدل عليه تراثهم، ولاسيما مذهب الإمام جعفر الصادق الذي يعمل الشيعة الإمامية بفتاويه واجتهاداته..
والحال كذلك بالنسبة للأئمة الأربعة الذين كانوا من أصحاب الفضل الكبير في حفظ الأحكام الشرعية ونشرها في الأمة وفقاً للمذاهب التي أنشؤوها وهم: الإمام أبو حنيفة صاحب مذهب الحنفية، والإمام مالك صاحب مذهب المالكية، والإمام الشافعي صاحب مذهب الشافعية، والإمام أحمد بن حنبل صاحب مذهب الحنبلية (رضي الله عنهم) جميعاً، وهي المذاهب التي يسير عليها أهل السنة والجماعة من المسلمين.
وليس من شك بأن كل إمام من الأئمة الخمسة قد استند في آرائه واجتهاداته إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم، وفقاً لما هداه إليه علمه وفهمه للأحكام الشرعية، فأعطى للأمة من خلال مذهبه أحكاماً معيّنة لمعالجة شؤون الحياة يمكن اعتبارها في مجموعها بمثابة دستور أو مشروع دستور شامل، باستطاعة كل حاكم مسلم أن يتبناه ويعمل به خلال مدة حكمه.. أي أنه بتعبير آخر يمكن أن تكون مجموعة الأحكام الشرعية التي اعتمدها كل مذهب من المذاهب الخمسة بمثابة مشروع دستور للدولة يعمل الحاكم على تطبيقه، بحيث يجعل من هذا المشروع الدستوري القانون الأساسي الذي تُبنى عليه سائر القوانين التي ترغب الدولة في تطبيقها.
ونحن نقول بهذا الرأي لأننا كنا قد أوضحنا من قبل بأن القرآن الكريم ليس دستور الدين الإسلامي كما يظن البعض، وكما يَجهرُ ويُعلن به كثيرٌ من الموجهين في المناسبات الخاصة والعامة، لأن نظام الحكم في الإسلام يستقي من مصدرين: القرآن والسنة، فلا يجوز بالتالي اعتبار القرآن المجيد وحده مصدراً للدستور، كما لا يجوز لنا أن نقول إن القرآن هو دستور المسلمين، لأن الدستور يجري تعديله دائماً، وأما القرآن الكريم فهو ثابت دائماً وأبداً ولا يجري عليه أي تعديلٍ أو تغيير. وبناء عليه فإن أي دستور تتبناه الدولة الإسلامية يجب أن تعود به إلى القرآن الكريم والسنة الشريفة حتى يكون هذا الدستور مستقيماً مع الإسلام وحتى يُعدَّ الحكم حكماً إسلامياً.. وهذا ما يؤكد بأن الآراء والاجتهادات والفتاوى التي تستند إلى الكتاب والسنة هي التي تشكل دستور الحكم في الدولة الإسلامية.
ومن هنا كان رأينا قائماً على أنّ أياً من المذاهب الإسلامية الخمسة يشكل بحدِّ ذاته مشروع دستورٍ شاملٍ كاملٍ يصلح لإقامة حكم إسلامي على أساسه، ويكون تطبيق دستور هذا المذهب أو ذاك بحسب رأي الحاكم أو قناعته.. ولعل الدليل الواضح على ذلك هو اعتماد العباسيين المذهب الحنفي أثناء حكمهم وتطبيقه في البلاد التي حكموها، ومن ثم اعتماد العثمانيين هذا المذهب بالذات أثناء حكمهم أيضاً، بل وقيام العثمانيين بتبني وتقنين أحكام هذا المذهب كما ظهرت في مجلة الأحكام العدلية في القرن الرابع عشر الهجري الموافق للقرن التاسع عشر الميلادي.. وهذا ما نجده اليوم عندما تُطبق في هذه الدولة أو تلك بعض اجتهادات أحد الأئمة الخمسة على مسائل معيَّنة، واجتهادات الآخرين على مسائل غيرها، بحيث نجد التطبيق العمليَّ للمذاهب الخمسة يشمل كلَّ الأمور الشرعية كالإرث والزواج والطلاق، والبنوّة وغيرها. وهو ما يجب أن يعمل به المسلمون، ويفرضوا على الحكام تبنّيه تعبيراً عن آرائهم في اعتناق هذا المذهب أو غيره.
لذلك كان من أولى اهتماماتنا في موسوعة الأحكام الشرعية الميسرة أن نبيّن آراء كلٍّ من الأئمة الخمسة بصورة مبسطة وسهلة، وذلك إلى جانب دراستنا للموضوعات الهامة في حياة المسلمين بعد أن تشابكت في عصرنا القضايا والأحداث حتى بتنا نخشى على المسلمين من الضياع، والانحدار المستمر في مهاوي الجهل والتخلف، والفوضى والانحطاط.
وقد ظهر ذلك للقارئ الكريم، وفقاً لما أعاننا المولى عزَّ وجلَّ عليه، من خلال ما يلي:
1 - التأكيد على أن ما جاء به كل إمام من أئمة المذاهب الإسلامية الخمسة كان حصيلة اجتهاده وفتاويه في توضيح وتفسير الأحكام الشرعية، كون التفسير هو الكشف والبيان، وكون الاجتهاد في الأحكام الشرعية هو نوع من التفسير، لأنّ استنباط الحكم الشرعي من الكتاب والسنة هو في الحقيقة بيان له، أو كشف عن حقيقته، أو إظهاره حكماً جليّاً واضحاً. وهذا ما قام به أولئك الأئمة (رضي الله عنهم) وجعلوه في متناول المسلمين حتى يفقهوا أحكام دينهم، ويسيروا على هدى كتاب ربهم وسنة نبيهم، دون اعتبارات طائفية أو مذهبية تعصبية من شأنها تفريق الأمة وإضعافها.
2 - الدعوة إلى المسلمين لتوحيد الكلمة حيثما وجدوا في مشارق الأرض ومغاربها، وترك التعصب والتنابذ والتفرقة، وذلك بعدما اتخذ أتباع كلِّ مذهب موقفاً معيناً من أحد الأئمة إن بالمعاداة أو الموالاة دونما تمحيص لآرائه، بل محاكاةً وتقليداً لمن سبقهم. فيكون الاطلاع على هذه الموسوعة، من خلال التفسير الموضوعي الذي اعتمدناه، ونقل آراء كل إمام، سبيلاً لفهم الأحكام الشرعية من الجميع، ما دامت الغاية هي، في الأصل، توضيح أمور الدين، ونيل رضوان الله سبحانه وتعالى. لا سيما وأن الأمة قد اعتمدت التفسير التجزيئي، وذلك في القرون الأولى نظراً لدخول شعوب جديدة في الإسلام، اقتضى وضعها وتعرفها على الإسلام صدور كتب التفسير التي تشير إلى أسباب النزول وإلى مقاصد اللغة. أما اليوم، وبعد أن تخطينا تلك المراحل، وتكاثرت المستجدات صارت حاجتنا ماسّةً إلى التفسير الموضوعي الذي أعاننا الله تعالى عليه وقدمناه للمسلمين في مجلداتٍ بلغ عددها اثني عشر مجلداً.
وهذا لا يعني أن تفسير القرآن الكريم، ولو من خلال التفسير الموضوعي، يمكن الإحاطةُ به باثني عشر مجلداً، لا بل لو أُتي بمائتي مجلد، أو أكثر من ذلك بكثير، فإنها لا تكفي لتفسير موضوعات القرآن المبين.
صحيح أن أحرف وكلمات وآيات القرآن الكريم معدودة، وشكله والمساحة التي يحتلُّها في حيّز الوجود محدودة، ولكن المعاني والمواضيع التي يتضمَّنها هذا الكتاب، أو التي تُعرض عليه ويجيب عنها هي غير معدودة ولا محدودة لأنها صادرة عن الله عزَّ وجلَّ. وهو الله الواحد الأحد غير المحدود، وهو الكامل في علمه وحكمته، ولذا نقول بأنَّ مواضيع القرآن الكريم لا تنتهي، وأنَّ الإسلام بحقٍّ وصدقٍ ويقين: هو الماضي، والحاضر، والمستقبل لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم): «كتابُ الله فيه حديث ما قبلكم، ونبأُ ما بعدكم، فضلُ ما بينكم»[*]. وقول علي (عليه السلام): «القرآن ظاهرُهُ أنيقٌ، وباطنُهُ عميقٌ، لا تفنى عجائِبُهُ، ولا تنقضي غرائبُهُ، ولا تكشفُ الظلمات إلا به».
ومع ذلك فإن من يطلع على تفسيرنا الموضوعي يجد أننا قدَّمنا فيه ما قد يمكّن القارئ المدرك الواعي من الاطلاع على كثير من المواضيع الأساسية والهامَّة، ويفتح لديه الإمكانية للإقدام على تفسير مواضيع أخرى كثيرة يجدها في القرآن المبين. ومن هنا كانت دعوتنا إلى تغيير طريقة تفكيرنا في التفسير التجزيئي واستبدالها بطريقة التفسير الموضوعي، لأننا في أشدِّ الحاجة إلى هذا النوع من التفسير في عصرنا هذا. وذلك لا يعني أننا سوف نستغني عن التفسير التجزيئي، كلا، بل نحن بحاجة إلى الاثنين معاً. ولكن حاجتنا إلى التفسير الموضوعي ماسَّة وملحة.
3 - الإقرار والاعتراف بأن القصد لم يكن جعل هذه الموسوعة مرجعاً فقهياً بل هي سبيلٌ يسهل على المسلمين معرفة الأحكام الشرعية، ويجعلها في متناول أيديهم وأيدي غيرهم، لأن الأحكام الشرعية في الإسلام إنما تعالج مشاكل الإنسان كإنسان له حاجات، وتواجهه أعباء ومستجدات بصورة دائمة.
كما رأينا من ناحية ثانية أن يكون الشاب المسلم الشيعي، والشابة المسلمة الشيعية، على بينة واطلاع على الآراء والاجتهادات التي يعمل بها إخوانهما المسلمون من أهل السنة الذين يسيرون على فقه المذاهب الأربعة. وكذلك لكي يكون الشاب المسلم السني، والشابة المسلمة السنيّة، على بينةٍ واطلاع على ما يفكر ويعمل به إخوانهما المسلمون من الشيعة الإمامية...
وقد كان يكفينا العمل والاقتصار على توضيح معاني الآيات المتعلقة بالأحكام الشرعية، عن طريق التفسير الموضوعي الذي اعتمدناه، دون أن نتعرض لآراء المذاهب الخمسة. ولكن رأينا أن من واجبنا تجاه ربّنا تبارك وتعالى، وتجاه أمتنا أن ننقل تلك الآراء وأن نبسطها ونسهلها بقدر ما وسعنا التبسيط والتسهيل، فيطلع المسلمون جميعاً على ما جاء به كل مذهب، ويتأكد لهم أن هذه المذاهب الإسلامية الخمسة إنما هي اجتهادات استقاها أصحابها من كتاب الله المبين وسنة رسوله الكريم، وبذلوا بشأنها من الجهود ما وسعهم ذلك لوضع تلك الاجتهادات موضع رعاية شؤون أمتهم.
4 - الاعتماد على الترتيب الذي يتناسب مع الوضع التاريخي للمذاهب الخمسة، وذلك بإيراد مذهب الشيعة الإمامية، ثمّ الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، أي بحسب الترتيب الذي اعتمده الفقهاء في كل مرة بحثوا في هذه المذاهب الأربعة. وهذا مع الإشارة إلى أننا استبدلنا لفظ «الحنابلة» بتعبير «الحنبلية» لأن المقصود إظهار الآراء الواردة في المذهب دون أي بحث في أتباعه، مما يجعل تعبير «الحنبلية» يأتلف أكثر مع فكرة المذهب، كما يأتلف مع التعابير الدالة على المذاهب الأخرى: الحنفية والمالكية والشافعية.
5 - لقد قصدنا دائماً التثبت من صحة المعنى المطلوب، أو الرأي الفقهي الأكثر دلالة. ولذلك فقد يجد القارئ الكريم أحياناً أننا لم نورد المرجع الذي يسند إليه الحديث، أو تسند إليه الرواية، أو القول الحرفي لأحد الأئمة أو الفقهاء. وقد يتساءل عندها من أين أتى بهذا الرأي دون غيره؟ فليكن القارئ الكريم مطمئناً إلى أننا لم نورد ما أوردناه إلاَّ بعد الاطلاع على عدة مراجع والتأكد من صحة المعنى المقصود، ومن ثَمَّ إهمال ما قد يبعث على التشويش والتناقض ما بين المبنى والمعنى. وكنا أحياناً نورد ما جاء في أحد المؤلفات بحرفيته طالما أنه يحافظ على الحكم الذي نعتقد صحته وصوابيته، ما دامت الغاية في النهاية إبراز رأي صاحب المذهب، وتوافقه مع الكتاب والسنة.
6 - لقد تعمّدنا البحث في نظام الحكم والاقتصاد والاجتماع من أجل إبراز الأسس الشاملة للنظام الإسلامي الكامل، ودحض آراء وأقاويل دعاة الديموقراطية الرأسمالية، ولا سيما الذين يدَّعون فهم الإسلام، أو أنهم من أبناء هذا الدين، بينما هم في الحقيقة، وفي جميع ما يكتبون وينشرون ويقولون، يحاولون تجهيل وتخطئة كل من يعمل على توضيح معاني الإسلام وإبراز مفاهيمه على حقيقتها وأصالتها. ولعل المثال على أفكار هؤلاء الدخلاء دعواهم بأن الإسلام هو دين للتعبد فقط، ولا علاقة له الشؤون الحياة فلا يصلح لإقامة دولة. وهو ادعاءٌ متعمَّد يُرادُ به الباطل، لأن الإسلام هو دين ودنيا معاً، كما يدلُّ عليه بوضوح كتاب الله وسنة رسوله. بل هو أمثل نظام لإقامة دولة على أساس المنهج الإلهي المتين الدائم الشامل الكامل، بخلاف مناهج أهل الأرض التي وضعوها بما يناسب، في كثير من الأحيان، أهواءهم ومطامعهم، بعيداً عما يرضي الله - عزَّ وجلَّ - ويحقّق كلمته في دنيا البشر..
وقد قمنا في هذا المجال بإظهار الخطوط العريضة للنظام الإسلامي، أي بيان هذا النظام بصورة شمولية بما يؤدي إلى إبراز الأحكام الشرعية وفقاً للكتاب والسنة، ودون الدخول في التفاصيل، أو في الجزئيات المتعلقة بالعلوم والتنظيمات التي هي من وضع الإنسان.
ومن قبيل ذلك مثلاً التنظيم الإداري في الدولة الإسلامية وما يمكن أن يشتمل عليه من وظائف وأنظمة ومهام ومسؤوليات، فهذه أمور تدخل في علم الإدارة، والذي بات من العلوم التي هي في متناول العالم جميعاً، بحيث يمكن لكل دولة أن تأخذه عن غيرها، وأن تطبق ما تراه في صالحها، دون أن يكون في ذلك أية غضاضة. فهـذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) أخذ علم الإدارة في أيامه عن الفرس، وطبقه في أرجاء الدولة الإسلامية. ونحن المسلمين اليوم يمكن أن نوجد علماً للإدارة من بنات أفكارنا، أو أن نستقي هذا العلم عن غيرنا ونكيِّفهُ بما يتلاءم مع أوضاع وظروف إدارتنا، كأن نأخذ مثلاً عن غيرنا كيفية إدارة المياه أو الكهرباء، أو الصحة، أو التعليم أو غيرها.. ويكون كل ذلك مقبولاً طالما أنه لا يتعارض بشيءٍ مع الكتاب والسنة ولا مع مصلحة الناس. ولكننا لا نقدر أبداً أن نستقي نظاماً إداريّاً يخالف الأحكام الشرعية إذا كانت هنالك نصوص شرعية تبين كيفية تطبيق هذه الأحكام في أي مجالٍ من مجالات الحياة، كما هي الحال بالنسبة لاستعمال المرافق العامة في سبيل الصالح العام.
والإسلام في الأصل يأمر بالتنظيم وينهى عن الفوضى، ولذلك كان علينا أن نبحث أولاً في نوع التنظيم الذي نريده، سواء أكان تنظيم الإدارة، أم تنظيم الأسرة، أم تنظيم الشركات، أم تنظيم الأسواق والمتاجر والفنادق الخ.. وبعد الفراغ من البحث والاتفاق على ماهية ونوع التنظيم ووضعه في صيغته النهائية، نعمد إلى عرضه على الشرع، فنقرُّ ما نجده موافقاً له، ونلغي ما يخالفه، فيأتي تنظيماً حديثاً وعصرياً من ناحية، ومتوافقاً مع شرع ربنا من ناحية ثانية.
ومثل علم الإدارة سائر العلوم الأخرى والأنظمة المتعلقة بها، والتي يجب أن نميّز فيها دائماً بين العلوم التي يمكن الإفادة منها، وبين الأنظمة التي تخالف الأحكام الشرعية أو تتوافق معها. ومن قبيل ذلك أيضاً علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي. فعلم الاقتصاد هو ما يبحث في طرق الإنتاج وزيادته وتحسين أساليبه، وهو علم عام من صنع الإنسان، فيمكن أن يؤخذ من أي مصدر يراه الحاكم أو أصحاب الشأن، لا سيما وأن العالم كله قد جعل هذا العلم موضع اهتمامه، وخاصة في الوقت الراهن إذ لا توجد أي دولة أو أمة لا ترغب في زيادة إنتاجها وتحسينه، وهي تسعى من أجل ذلك للاستفادة مما وصل إليه غيرها في هذا المضمار..
أما من ناحية النظام الاقتصادي، وهو ما يبحث في كيفية جباية الأموال من الناس، وكيفية توزيعها عليهم، وكيفية إنفاقها في سبيل الصالح العام، فهذه الأمور يجب التقيد فيها، بما يتوافق مع نصوص الكتاب والسنة: وذلك كي لا يختل التوازن بين فئات المجتمع، وما يستتبعه من مفاسد وشرور، كما نراه اليوم في تطبيق الأنظمة الاقتصادية الوضعية التي ترتكز على عدد من النظريات كَشف الزمن عقمها في إقرار العدالة بين الناس، وابتعادها عن تثبيت دعائم التكافل، والأمن الغذائي للمواطنين في معظم بلدان العالم.
7 - وأخيراً حاولنا الاجتهاد في بعض المواضيع بطريقة عملية، وذلك لما لهذا الأمر - في رأينا - من أهمية في حياتنا، وخاصة بعدما أقرَّ المسلمون جميعاً، في بداية القرن الخامس عشر الهجري، بأن باب الاجتهاد أصبح مفتوحاً، وطووا صفحة التاريخ الذي أقفلوا فيه هذا الباب، بحيث تكون هذه الطريقة محاولة جدِّية يمكن أن يسترشد بها أبناء الأمة من أصحاب العزم والكفاءة، المأهلون لطَرق باب الاجتهاد. وقد باتت الأمة بحاجة ملحة إليهم بسبب التطورات والمستجدات التي تواجه المسلمين اليوم. لاسيما، وأن الأمة - وهو ما يجب أن يكون واضحاً - إذا قبعت في تكايا التقليد، واكتفت بما قدَّمه لها السلف الصالح، دون بذل جهود جديدة، فستكون بعيدة، حكماً، عن اليقظة والنهضة، لأن في التقليد خمولاً، وتواكلاً، وهرباً من المسؤولية، وبالتالي استمراراً في السطحية. بينما الخوض في غمار الاجتهاد، من شأنه أن يبعث في أبناء الأمة الحيوية والنشاط، والعمق في التفكير، وبالتالي النهوض بعبء استنباط الأحكام الشرعية التي تمكّن من معالجة مشاكل العصر، وتفتح أمام المسلمين سبل مواكبة التقدم والمستجدات المتلاحقة.
الـنـداء:
أيها المسلمون!
ثلاث هن ضرورات لكم: القراءة، ومحاولةٌ جادةٌ للتخفيف من التقليد، والعملُ الدائبُ والتفكيرُ العميقُ للوصول إلى الاجتهاد.
فأما القراءة فهي ميزة الأفراد المثقفين، وعنوان الأمم الراقية. وهي الطريق إلى المعرفة والعلم، والمنار إلى الهداية والرشاد، والسبيل الذي يكاد أن يكون الأوحد إلى اليقظة والنهضة.
ولا مجاملة في الحق يا إخوة الإسلام. فنحن اليوم أقل الأمم قراءة، أي دراسة ودراية وعلماً في معظم الأمور، مع أن أول آيةٍ بل أول لفظة أنزلت على سيدنا ونبينا محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) من ربنا الحكيم العليم كانت قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *} [العَلق: 1].. فقد شاء، سبحانه وتعالى، أن ينقل نبيه ورسوله من الأمية إلى المعرفة، حتى يكون (صلى الله عليه وآله وسلّم) قادراً على حمل أعباء النبوة والرسالة، لأن الإنسان الذي لا يملك المعرفة والعلم لا يكون قادراً في الحقيقة، على تسلم المهمات الكبيرة، والقيام بالأمور العظيمة.
فما بالنا نحن المسلمين. وطلب العلم والمعرفة من مقاصد ديننا، نظل مقصّرين في أهم واجباتنا، أي اكتساب العلم والمعرفة، والعمل بهما لا سيما ونحن لا تنقصنا مدارك، ولا مؤهلات، ولا طاقات ولا قدرات؟... أليس في المسلمين من يتقنون جميع لغات العالم مثلاً، وهم قادرون على ترجمة ونقل آثارها وعلومها النافعة والمفيدة إلى لغاتهم وبلدانهم. فإن لم يفعلوا ذلك وهو من الأعمال الميسَّرة لهم. أفلا يعني ذلك التقاعس والإهمال؟
أيها المسلمون!
بالعلم تسود الأمم، وبه تنتقل من الجهل إلى المعرفة، وتخرج من الظلمات إلى النور، ومن التبعية إلى السيادة. وقد تهيأت لكم أيها المسلمون أسبابه اليومَ بصحوتكم على الإسلام الذي أخرجكم بالأمس من ظلمات الجهل والكفر إلى نور المعرفة والإيمان، ونقلكم من مهاوي الضلال والتفرقة إلى رحاب الهداية والوحدة، حتى كانت هذه الأمة، يومئذٍ بمثابة الشمس الساطعة في كل البقاع التي وصلت إليها، ونشرت فيها الإسلام ديناً ودنيا، فبرع من أبنائها في حقول الطب والفلك والرياضيات والكيمياء، وغيرها من علوم الاجتماع والأدب، أعلامٌ كبارٌ كانوا منارةً للبشرية في انتقالها من عصور الانحطاط إلى عصر النهضة.
ولكن ما نفع ذلك كلِّه، وقد استمر غيرنا سائراً على طريق العلم، بينما تخاذلنا نحن وتفرقت بنا السبل حتى بتنا على هذه الحالة من الفوضى والتخلف؟. إن خير علاج لنا اليوم وغداً هو طلب العلم والمعرفة.. فاقرؤوا، واعلموا، وعلّموا أبناءكم حتى تقوى مداركنا، وتتوسع آفاقنا، وتنمو معارفنا وعندها سوف ترون أنكم وحدكم - دون غيركم من الأمم - على حق، ومعكم الحق. كيف لا، والقرآن هو كتابكم، والإسلام هو دينكم، ومحمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) هو رسولكم، ودعوتُكم هي التوحيدُ ونبذُ الشرك ومحاربته بشتى أشكاله وأنواعه، في دنيا الأرض كلها.
نعم، إن أمام هذه النخبة من أبناء الإسلام الذين جالوا في آفاق العلوم والثقافة العالمية، والثقافة الإسلامية بالذات، مهماتٍ جليلة، وذلك عندما يجدّون للوصول إلى درجة العلماء المجتهدين، واستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة لمواجهة جميع المشاكل والمستجدات في الحياة.. فإن لم تسارع هذه الفئة الكفوءة إلى هذا الاجتهاد، فلتحذر الأمة بأسرها من أن تتراكم عليها المشاكل والأخطار، وتعترضها المصاعب والعثرات التي قد لا تقدر على إيجاد الحلول والمعالجات الملائمة لها، فتقع عندئذٍ في المحظور، وتصبح وكأنه حُكِم عليها أن تنصرف عن الدين، للانهماك في شؤون الحياة العادية البسيطة. ولن يكون لديها حينئذٍ سبيل تطرقه إلاَّ اللجوء إلى ثقافة أعداء الإسلام والمسلمين، وكأنها تستصرخهم النجدة والعون، فيقدمون لها علاجاتٍ قد لا تكون في مصلحتها، بل وقد تخالف دينها، مما يفرض على الأمة فعلاً توخّي الحيطة والحذر، حتى لا نصل إلى تلك الحالة المزرية، التي تصرفنا جميعاً عن أحكام ربِّنا تعالى، وتؤدي إلى تعطيل المحاولات الرامية إلى الاجتهاد وإقفال بابه بصورة حتمية..
لذلك يجب علينا أن نفكر تفكيراً سليماً، وأن ننهج نهجاً صالحاً، حتى نتمكن - إن شاء السميع العليم - من إيجاد السبل التي نعالج بها جميع مشاكلنا وإشكالاتنا، لأن الفكر إذا جال وجَدَ حلاًّ لكل مشكلة وإشكال. والمشاكل، أياً كان نوعها، لا يكون حلها بالتواري عنها أو الهروب منها، بل بالعكس يكون بمواجهتها والتصدي لها، لأنه لا مشكلة تستعصي على الإنسان إذا عقد العزم على حلّها، مستعيناً بالله العلي القدير على ما يطلب ويريد.
أيها المسلمون! لا تجعلوا السلبيةَ هدفاً من أهدافكم، ولا تتخذوا أيَّ موقفٍ من الأحداث التي تتوالى في العالم، ما لم يكن بحثُكم فيه معمقاً ومستنيراً. وليكن لأصحاب الفكر من العلماء والمتخصصين فيكم، رأيٌ واضحٌ حيال أي حدث يحصل، ثم يُعرض ما توصلوا إليه على أهل الفقه والاجتهاد، لكي يقولوا رأيهم فيه من ناحية موافقته للأحكام الشرعية أو مخالفته لها. ولا تخشوا من تباين الآراء والفتاوى. فالمهم أن يصدر الموقف وقد أجمعنا نحن المسلمين على رأيٍ واحدٍ من هذا الحدث أو ذاك، أي أن يتوحّدَ الموقف الإسلامي دائماً بصورة إيجابية وبعيداً عن السلبية، ونعني بذلك أن لا نواجه الحدث فوراً بصورة عدائية، بل علينا أن نأخذه من باب الإيجابية، ثم بعد دراسته وتمحيصه نعلن الموقف الإسلامي الذي يتوافق مع الكتاب والسنة.
أيها الدّعاة!
إننا إذ نتوجه إليكم خاصة بالذهنية الإيجابية التي نناشد المسلمين جميعاً أن يتبنوها ويجعلوها هدفاً استراتيجياً في مقبل حياتهم، لا بد أن نذكِّركم، ونذكر العالم بأسره، أن الأحكام الشرعية التي يسير عليها المسلمون منذ قرون عديدة هي من تراثنا المشرف. وقد استنبطها مجتهدوكم من كتاب الله وسنة رسوله كي تعالج جميع المشاكل. ولو اطلعتم عليها جميعها، بروح الإيمان الخالص، لوجدتم أن كثيراً من المشاكل التي تعترضكم أنتم والعالم اليوم، قد أوجدت تلك الاجتهادات حلولاً سليمة لها، وهي وحدها التي تصلح علاجاً وقائياً وشافياً لأنها مستندة إلى كتاب الله تعالى وسنة الرسول الكريم. وما زال كتاب ربكم وسنة نبيكم بانتظاركم كي تستنبطوا منهما الأحكام لمعالجة مشاكلكم ومشاكل جميع الأمم المحيطة بكم.
فمثلاً أولئك الذين يعترضون على النمو السكاني خشية الجوع والفقر والتخلف والمرض، أليسوا هم أنفسهم الذين يعملون جاهدين كي تبقى الشعوب، التي ينعتونها بالتخلف، على حالة التخلف فعلاً، وكي تبقى أسواق بلادها مفتوحة أمام سلعهم وتجارتهم، وكي تبقى علومهم وحدهم في الذروة، وذلك من أجل استغلال ثروات تلك البلاد والتحكم بمصائرها ومصائر شعوبها بما يتناسب مع مصالحهم؟
هذه حقيقةٌ ناصعةٌ واضحةٌ للعيان، فأين موقف الإسلاميين من إبراز الأحكام الشرعية التي لا تبيّن فقط الفكر الإسلامي حيال النسل والتكاثر السكاني، بل وتحضّ المسلم على العلم والعمل وهما السبيلان الوحيدان للخلاص من الاتهامات الباطلة الموجهة إلى المسلمين، ومن الآفات الاجتماعية التي تحلّ بنا وتجعلنا متخلفين في بلادنا الإسلامية واقعاً وحقيقة؟ بل أين موقف الإسلاميين من طرح برامج الإصلاح في دولهم وفقاً للأحكام الشرعية التي أنزلها ربُّ العالمين، وأوضحها العلماء والمجتهدون، بل واستنبطوا لها أحكاماً كثيرة من الكتاب والسنة هي كفيلة بمعالجة المشاكل التي يشكو منها العالم الإسلامي؟
إننا نحن المسلمين نمتاز بصدق الإيمان القائم على أنَّ العمل والجهد مطلوبان من الإنسان بينما النتائج على الله العلي القدير. وبهذا الإيمان فإننا لا نأخذ بالنظريات التي يبتدعها أهل هذه الأرض، وتكون في معظمها لأغراض بعيدة ومقصودة، بل نعمل لتطبيق أحكام ديننا، وهي كفيلة بإيجاد الحلول الملائمة بعيداً عن النظريات والمقاصد الخبيثة.
وبهذه المناسبة، - والآراء والنظريات والمؤتمرات عن السكان والتنمية على كلِّ شفةٍ ولسان - فلو أخذنا مثلاً نظرية العالمِ المتشائم مالتوس الذي اعتبر أن عدد السكان في العالم يتزايد وفق متوالية هندسية، بينما السلع والموارد الغذائية تتزايد وفق متوالية حسابية، وأنه بعد مدة من الزمن قدَّرها وفق حساباته، سوف يكون الجزء الأكبر من العالم غير قادرٍ على مواجهة مشكلة الغذاء، بل وسيقع في الفقر والجوع لا محالة.. نقول لو سلّمنا بصدق هذه النظرية لكان من المحتَّم أن تكون المشكلة قد وقعت، ولكان معظم العالم في جوع وفقر ومرض، وهذا ما لا يأتلف مع صدق إيماننا بأن الله سبحانه وتعالى قد أودع في الأرض خيرات وفيرة وكافية لإشباع عدد سكانها الذين خلقهم، وتكفل برزقهم مهما بلغوا من النمو والكثرة. وأما ما نشاهده اليوم من فقر وجوع فسببه حِكْرُ هذه الخيرات على بعض الشعوب، وحرمان بعضها الآخر منها. وهذا هو الذي أبقى تلك الجماعات من الناس تعاني الجوع والفقر والمرض وتبقى في حالة التخلف والتأخر..
من هنا كانت دعوتنا إلى الإيجابية نعتمدها بمثابة استراتيجية لنا في شتى الأمور، ما لم يفرض الحدث الواقع عدم ممارسة الإيجابية بصورة مطلقة ومستحيلة. فعندها نعلن موقفنا السلبي الذي يمليه علينا ديننا حتى ولو ظهر هذا الموقف معارضاً لآراء العالم كله، لأننا لا نخاف في الحق لومة لائم.
ونعطي على هذه الإيجابية التي نتوخاها في استراتيجيتنا الفكرية والعملية نفس المثال، ونعني به «المؤتمر الدولي للسكان والتنمية» الذي عقد في القاهرة (5 - 13 أيلول 1994م) وشاركت فيه أكثر من مائة دولة. وكانت الوثيقة (أو برنامج عمله) التي تتألف من 118 صفحة والتي تم إعدادها خلال السنتين الأخيرتين قبل انعقاد المؤتمر، تتضمن مواضيع هامة تناولت بشكل رئيسي مسائل الصحة التناسلية والجنسية، والإجهاض، والنشاط الجنسي للمراهقين، ومن ثم التكاثر السكاني وسبل التنمية..
وقد ثار تيار إسلامي معادٍ للمؤتمر، منذ أعلن عنه، إذ رأى فيه أموراً تتصادم مع الإسلام وخاصة ما يتعلق: بالدعوة إلى تأخير سن الزواج، والسماح بتعاطي الجنس دون قيود، والحدِّ من الإنجاب، وتوفير وسائل منع الحمل، والإرشاد إلى الإجهاض بشكل لا يسبب مشاكل صحية، إلى ما هنالك من الأمور التي رآها أصحاب هذا التيار معادية لدينهم، ومخالفة لأوامر الله تعالى ونواهيه!..
ونحن نقول إن هذا الموقف الفوري الذي يظهر المعاداة للمؤتمر يمثل السلبية بعينها. وكان الأحرى بنا أن نتخذ من هذا المؤتمر فرصة سانحة - لاسيما وأن المواضيع التي يبحثها هي من الأهمية البالغة - لنناقشَ ما يطرح فيه على ضوء الكتاب والسنة، وعلى ضوء الأحكام الشرعية، ولنبيِّنَ للعالم أجمع ما هو الصواب في تلك المواضيع وما هو الخطأ، لا من حيث مضمونها وحسب، بل ومن حيث تأثيرها على حياة الناس من الناحيتين الدنيوية والدينية. وبذلك نظهر للعالم مدى أصالة الدين الإسلامي في معالجة شؤون الحياة المتجددة المتعددة...
وعلى هذا الشكل يجب أن يكون موقفنا حيال أي حدث يطرح في العالم ، أي أن نعمل على معالجته من زاوية الفكر الإسلامي الصحيح الذي لا نشك أبداً بأنه يوفر أنجع وأسلم العلاجات للقضايا المطروحة. وخاصة إذا أمكن إبراز هذا الفكر بذهنية متفتحة، تتناسب مع الروح الإيجابية التي ندعو إلى العمل بها.. فالتكاثر السكاني الذي هو مثار الجدل والاهتمام اليوم، والذي تشكو منه الدول الغنية المتقدمة تكنولوجياً، لأغراض باتت معروفة، والذي نعتبره نحن من أهم أسباب مشكلات العالم الثالث، يمكن مناقشته من زاوية الفكر الإسلامي الذي يحض على عدالة توزيع الثروات، وإيجاد سبل العمل لكل إنسان، وحفظ الأم والطفل في أوضاع صحية ملائمة، إلى ما هنالك من الأمور التي تعالجها الأحكام الشرعية من زاوية مختلفة عن المعالجات التي يدعيها أصحاب المؤتمرات والوثائق، هؤلاء الذين هم وراء المشكلات التي تعاني منها البلاد الإسلامية، وسائر الدول الفقيرة التي ينعتونها بالتخلف..
أيها المسلمون!
لقد عشتم قروناً على التقليد، وحان اليومُ الذي تعبرُونَ فيه جسرَ الخلاص من هذا التقليد إلى آفاق التجديد في الإنشاء والارتقاء.
عندما تجتازون مرحلة التبعيّة والتقليد تلك إلى تطلعكم الهادف لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى، وإلى غايتكم السامية النبيلة ألا وهي رضوان الله تعالى، فسوف تجدون حالكم وقد توحَّد سلوككم نتيجة توحُّد أهدافكم وغاياتكم، وقد تخلصتم من هذه التبعية التي تُثقِلُ كواهلكم، وتقيّد أفكاركم، وتشتت عزائمكم. وسوف تَرَوْن أنكم قد سرتم على الصراط المستقيم الذي أراده لكم رب العالمين، وعدتم أمة إسلامية وسطاً، لا شرقية ولا غربية، كانت وما زالت وستبقى بإذن الله تعالى خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله الواحد الأحد العلي العظيم.
الـدعـاء:
اللهمَّ ربَّنا لا تعذبْنا ونحن نستغفرُك، ولا تحرِمْنا ونحن نسألُك،
اللهمّ ربَّنا فرِّغنا لما خلقتنا له، ولا تُشغِلْنا بما تكفَّلت لنا به،
اللهمَّ ربَّنا اجعلِ القرآنَ ربيعَ قلوبِنا، ونورَ صدورِنا، وجلاءَ حزنِنا، وذهابَ همِّنا وغمِّنا.
اللهمَّ ربَّنا إنا نرغب إليك في دولةٍ كريمةٍ تُعِزُّ بها الإسلامَ وأهلَه، وتُذِلُّ بها النفاقَ وأهلَه، وتجعلُنا فيها من الدعاةِ إلى طاعتك، والقادةِ إلى سبيلك، وترزقُنا بها كرامةَ الدنيا والآخرة.
ربَّنا وتقبّلْ دعاءنا.
ربَّنا لا تؤاخذْنا إن نسينا أو أخطأنا، ربَّنا ولا تحملْ علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا، وربَّنا ولا تحمِّلْنا ما لا طاقةَ لنا به، واعفُ عنا، واغفرْ لنا، وارحمْنا، أنت مولانا، فانصرْنا على القومِ الكافرين، هبةً منك يا كريم.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢